ظلّ يدور في الغرفة لساعات لا يعلم ما عددها.. فهذا ما قرره..
سيحبس نفسه في هذه الغرفة إلى أن يكتب شيء ذا معنى..
إلى أن كتب شيء لم يكتبه فعلاً من قبل أي احد.. شيء مميز حقاً..
هو يدور منذ نصف ساعة تقريباً.. تعددت حركاته في الغرفة مابين الإستلقاء على الأريكة.. أو الجلوس على المكتب.. أو الوقوف أمام النافذة.. أو الدوران حول نفسه في المساحة المتبقية من الغرفة..
جلس على الأريكة متوخياً الحذر من أن يصدم بقدميه أياً من فناجين القهوة التي رُصَّت على على الأرض بجوارها.. فرك وجهه بكفيه ثم صعد بهما ليمران بين خصلات شعره.. تراجع ليسند ظهره.. ثم أكمل أفكاره التي لا تنتهي..
يعشق الكتابة.. اتخذها هواية.. فقد وجد فيها الملاذ من أشياء كثيرة..
بدأ الكتابة منذ أن كان طفلا.. فقصصه وهو طفل.. يحتفظ بها حتى الآن..
يذكر كيف كان يتخيل تلك العوالم الخرافية.. وتلك الكائنات وتلك المغامرات.. وأنه سيكون الفارس البطل.. لطالما كان هناك هدف لوجوده.. وأنه مميز.. فقط هو ينتظر النداء..
نداء ماذا؟!!! وما أدراه الآن؟!! كانت أحلام طفولية عن بطولات وهمية..
هو الآن محتجز في غرفة المكتب بمحض إرادته.. لأنه لا يعرف ماذا يريد أن يكتب؟!!
فُتح باب الغرفة ليدلف ذلك الطفل متعثر الخطوات.. ويحاول الركض هارباً من شيء ما مطلقا كلمات متعثرة أكثر من خطواته..
دلفت زوجته في خطوات سريعة لتحمل الطفل.. وقالت بسرعة قبل أن يعاتبها لكسرها تعليماته المشددة بعدم مقاطعة خلوته وأفكاره "أتريد فنجان قهوة؟!!!"
نظر لها بتمعن وهم بالرد لكنها أعقبت بسرعة وهي تخرج "حسنا سأصنع لك واحداً آخر" ثم همست بحنان لائم للطفل العابث "ألم أقل لك أن "بابا" مشغول.. لنتركه الآن".. قال الطفل كلمات غير مفهومة.. وأُغلق باب الغرفة.. من جديد..
أطلق تنهيدة عميقة.. مالذي يفعله هنا!!..
لمَ يترك العالم الخارجي بكل ما يحمله من بهجة وحياة.. ويحبس نفسه هنا!!..
حتى النوم.. لم ينم تقريبا منذ ليلتين.. بالكاد ينام.. أفكاره تتشاجر بين جدران عقله..
لكنه كاتب جيد.. هذا ما قيل له.. هذا ما أُكّد له.. وقد تم فعلاً نشر بعض من أعماله ولاقت استحسان الجميع..
رغم انها ليست مهنته.. وانها مجرد هواية يقوم بها في أوقات الفراغ.. فهو لا يأخذها على محمل الجد..
أم يأخذها؟ بم يفسر حبسه لنفسه إذا!!! يريد أن يثبت لنفسه شيء!! لكن ما هو!!..
هو لم يحب شيء مما كتب.. فقط هو شعور بالألفة ينتابه بين سطوره.. ولكن ليس الحب..
في بعض الأحيان يشك في رأي معجبيه.. ويتهمهم بينه وبين نفسه بعدم الإدراك.. فهو كما يُعرف دائماً بين أصدقائة بصاحب المعايير العالية..
أما كتاباته والتي يشبهها بالنزوات.. فههي بالنسبة له كعشيقات.. لا يحبهن..
ولكن لا يقدر أن يتخلى عنهن.. شيء من الحميمية لا الحب..
وهو يبحث عن الحب بين سطوره.. عن الحب والبطولة بين كلماته..
سمع نقرتين على الباب.. فهتف "أُدخل"..
دخلت زوجتة حاملة صينية عليها كوب قهوة وكوب ماء.. وشطيرتين..
قالت وهي تمشي على أطراف أصابعها بين الأوراق والفناجين "لم أجد فنجان للقهوة.. يبدوا أنها كلها هنا!! فصببتها لك في كوب.." ثم أشارت للشطيرتين وأكملت "ولعلك جائع"..
تأمل وجهها من جديد.. بدت وكأنها تقول رغم هدوء ملامحها "إنك تسعى فساداً في منزلي..".. إهتمامها وحنانها يخفي وراءه بركان غضب.. سيلقى عقابه بعد اعتكافه هذا.. لكنها تنتظر.. حتى لا تتهم بالتقصير.. ليكن التقصير من نصيبه بعد أن ينتهي..
هو يحفضها ويعرف كيف تفكر.. لهذا نهض.. وأخذ منها الصينية ووضعها على المكتب.. وقبَّل يدها وابتسم وقال "شكراً حبيبتي.. و...." قاطعته بوضع يدها على شفتيه وقالت مبتسمة "لا تقل شيء.. ستنال عقابك فيما بعد"
تركته وانصرفت في هدوء.. لقد خسر هذه الجولة!!.. فابتسم..
جلس خلف طاولة المكتب.. تناول فنجان القهوة على دفعتين.. وتأمل البن الراكد في الكوب..
كم يحب هذا البن.. لقد تناول نصف ما في الفناجين الملقاه..
لا يتذكر من قال له أنه خطر.. لكنه لم يجرب قط أن يتأكد من هذه المعلومة.. لحبه الشديد في البن الراكد.. عله يكون خطر فعلاً.. فلن يتلذذ به مجدداً..
طقطق أصابعة وبدأ في الكتابة على الآلة الكاتبة الموضوعة على المكتب.. بضع سطور.. ثم توقف ليأتملها بنظرات دون معنى تتحول تدريجيا إلى نظرات ضيق..
أخرج الورقة وكومها ثم ألقاها على الأرض.. لتنضم إلى أخواتها المتبعثرات في كل أركان الغرفة..
أسند رأسه بين كفيه.. وأحذ يتأمل الآلة الكاتبة.. وتذكر ذلك الفيلم الأجنبي..
حين اختطفت ممرضة مجنونة كاتب كبير.. وحبسته في منزلها لينهي آخر أجزاء روايته نهاية سعيدة كما تُحب هي.. فلم تعجبها النهاية التي كتبها الكاتب المسكين..
فتذكر كيف أحرقت روايته الأصلية وكيف كسرت قدميه.. لا يعلم أيهما أبشع بالنسبة إليه.. الكلمات المحروقة التي تحولت إلى رماد ولا سبيل لاستراجعها أبدا.. أم ألم سحق القدمين؟..
لقد أحب هذا الفيلم حقاً!!!.. وعلى أثره اشترى هذه الآلة الموضوعة أمامه..
لكنه نادرا ما يكتب عليها.. لم يعتد هذا..
وفي بعض الأحيان يحولها إبنه للعبة من ألعابه.. فأزرارها تطلق أصوات جذابة ومضحكة في نظر الصغير..
أرخى إحدي يديه.. ليميل رأسه.. واتجه وجهه نحو المافذة.. وتساقطت على وجه عشرات البقع الضوئية التي صنعتها الشجرة بالخارج.. احداها تأتي على إحدى عينيه فيغمضها..
عشرات البقع الذهبية تصنع تلا وهميا من الذهب.. عملات ذهبة متناثرة على سطح مكتبه.. يضع يده عليها..
للحظة بدت وكأن بالإمكان إمساكها.. لكن هذا لا يحدث.. حتى بعض المسلمات البسيطة نخطئ فيها أحياناً.. خدعة الإمساك بالضوء.. إنها صالحة لقطة.. وليس لرجل راشد..
عاد ليمرر يديه على الأضواء المتلاعبة.. مذا لو كانت ذهباً حقاً؟؟ تلال من الذهب.. جزيرة بعيدة.. كنز مدفون.. ينتظره ليجده..
هز رأسه بقوة.. الآن بدأ يفكر بعقل طفل صغير..
كنز مدفون!!!! بماذا يخرف!!!!!!!!!!!
الوقت يطول وهو لا يفعل شيء..
الوقت يطول وهو لايكتب شيء..
بطريقة ما بدأ يكره الغرفة.. الأوراق.. المكتب.. الآلة.. بدأ يكره نفسه..
بطريقة ما بدأ يتحول كل هذا إلى كابوس..
أطرق برأسه قليلاً.. ثم نهض.. فتح زجاج الشباك.. أخذ نفساً عميقاً من الهواء المنعش..
ثم قال لنفسه بحزم وبصوت واضح ومسموع "الكتابة ليست بالإكراه.. الكتابة ليست بالإكراه.. إما أن تكتب وقت جاءتك الأفكار.. وقت شعرت بالإلهام.. وقت شعرت بأنك قد تُحدِث فرق أو إختلاف.. أولا تكتب.. فعدا هذه الأسباب.. هو عذاب لك.. وعذاب للقارئين.. ليست واجباً عليك.. هي هواية.. هي متعة.. وليست سجنا إجبارياً.."
أغمض عينيه لحظات وأخذ يهز رأسه وكأنه يقلب الكلمات بداخله ليفهمها أكثر ويصدقها أكثر..
ثم أستدار.. وخرج من الغرفة.. ليعن نهاية خلوتة وحجزة الاختياري..
لم يجد الحب اليوم.. لم يجد البطولة.. ولم يجد ما بحث عنه بين أرجاء عقله..
علّ هذا ما يُبقي ما بداخله من شغف وأفكار حية.. علّ هذا ما يجعله يتساءل دوما ما قد يجده بالغد بين سطوره.. من الممكن أن لاجد هذا أبدا.. كم هذا محزن..
ولكن الأشد حزناً أن يجد مبتغاه.. ليظل بعده كالحي الميت.. فلم يعد شيء يستدعي شغفه..
ولعل هذا المراد دائماً.. أن لايجد ما يبحث عنه بين ثنايا أفكاره وكلماته.. ليظل هذا وقوده ودافعه الدائمين..
هذه فلسفته الخاصة.. فلسفته الغريبة.. لكنه لن يعبأ بهذا الآن.. لن يفكر كثيراً الآن.. فقد أنهكه التفكير..
فقط سيكون إنساناً بسيطاً.. زوجاً محباً.. وأباً عطوفاً..
يعلم أنه سيعود لغرفة المكتب.. ولكن ليس الآن..
فقط.. حين يجد داعياً لهذا..