أفتح نافذة حجرتي بشكل موارب.. فتحة صغيرة تكفي رأسي لأرى العالم.. ولا يراني..
وأجلس فوق مكتبي الملاصق لها.. لأكون بجوارها تماماً..
أطل برأسي.. يميناً.. يساراً.. وعالياً.. لا أحد يراني.. فأنزع المنديل الصغير الذي يغطي شعري..
نافذتي وهواؤها البحري.. تحمل لي نسمات البحر وشيئاً من رائحته.. والكثير من رائحة غسيل جيراننا.. غسيلهم يعطر الأجواء هنا..
أضع ساقاً على ساق.. أسند رأسي على الشيش الموارب.. وآخذ نفساً عميقاً وانا مغمضة العينين.. آخذة بتركيز.. تلك الأنسم النظيفة أحتاجها لتكو
وأجلس فوق مكتبي الملاصق لها.. لأكون بجوارها تماماً..
أطل برأسي.. يميناً.. يساراً.. وعالياً.. لا أحد يراني.. فأنزع المنديل الصغير الذي يغطي شعري..
نافذتي وهواؤها البحري.. تحمل لي نسمات البحر وشيئاً من رائحته.. والكثير من رائحة غسيل جيراننا.. غسيلهم يعطر الأجواء هنا..
أضع ساقاً على ساق.. أسند رأسي على الشيش الموارب.. وآخذ نفساً عميقاً وانا مغمضة العينين.. آخذة بتركيز.. تلك الأنسم النظيفة أحتاجها لتكو
ن أنفاس لي.. فلم يثر أحداً التراب بعد.. ولم تملأ الجواء بعوادم وسموم السيارات..
السماء.. مازلت تحمل ليلها ونهارها معاً.. فنصفها الأيسر مظلم.. يجر فيه
الليل إسداله الثقيل.. يرحل في بطئ تستعجله فيه خيوط الشمس..
سيسافر أرضاً أخرى.. وسيرش رذاذ نعاسه على جفون أخرى..
أما الجانب الأيمن من السماء.. الشمس فيه تكشف عن وجهها بسرعة نوعاً ما..
وقد صبغت خيوط نورها السحاب بلون برتقالي باهت.. ضوءها الآن لطيف.. يحمل
النور ولا يكسر برودة النسمات.. ولكنها ستشتد.. ستزداد حراراتها وترغرقنا
بها بعد بضع ساعات..
أخفض عيني من على السماء إلى قمم الأشجار المقابلة لعمارتنا في الجهة المقابلة في الشارع.. تتهادى في دلال لا يكسر هيبتها..
تلك الأشجار الطويلة جدا والقديمة.. تتشابك أغصانها، فلا تعلم غصن أي شجره هذا.. ولأي فرع ينتمي هذا..
أما العصافير.. فتطير أسراباً وتحط أسراباً.. بتنسيق بديع جعلني أتمتم بـ
"سبحان الله" عصافير تهبط بشكل رأسي وبسرعة جديدة وكأنها تسقط.. وأخرى تحط
بهدوء في الزاوية البعيدة عني من نافذتي..
أنزل عيني أكثر.. من قمم الأشجار لقمم أكوام القمامة التي جلست ساكنة بجوار جذوع الأشجار وسيقانها بالأسفل..
أكياس من القمامة والمهملات التي لا تعد ولا تحصى.. تلال منها ملأت الأرض.. رفعت رأسي بغضب نحو العمارة الملاصقة لجنتي الصغير..
جيراننا الأعزاء في العمارة المقابلة لنا كان حمدهم لنعمة الله بوجود مثل
هذه المساحة الخضراء بأن ملؤوها بقاذوراتهم.. فالقمامة هنا ترمى من أعلى
ومن أي دور..
تأملت العمارة.. خمسة عشر دوراً ، مساحة الدور
الواحد شقة واحدة لا تتعدى المئة متر مربع!!!.. حقاً عمارة طويلة بلهاء
جسدت معنى القبح المعماري.. فقد سدت علينا السماء.. وأوسخت ما حولها من
أرض..
أتذكر هنا أيضا أنهم يبنون عمارة أخرى جديدة خلفها.. واحدة
أخرى طويلة للغاية بشكل غير قانوني.. وكي يوفر المسؤول عنها ثمن نقل مخلفات
البناء.. فقد استسهل وجود تلك المساحة الخالية من البنايات
جوارة "جنتي الصغيرة".. ليمطرها بوابل من أجولة الإسمنت والأتربة من أعلى العمارة.. لتسقط
كالقنابل الدخانية.. محدثة ضجة ودوي قوي.. ولتتفتت على قمة شجرة مسكينة..
رادمة إيّاها وإيّانا.. فأستيقظ كل يوم أتأمل طبقات الغبار التي تغطي أثاث
منزلنا..
وأتأمل الشجرة المسكينة فأراها قد جردت تماماً من أوراقها وأغصانها..
تلك المسكينة التي وقفت امام قريناتها في فصل الربيع عارية تماماً من حُلتها وزينتها..
في هذه اللحظة إشرأبيت بعنقي كي أرى صديقتي الشجرة المسكينة التي صمدت
أمام معدومي الضمير بكبرياء.. فاتسعت عيناي بدهشة تبعها تأثر شديد..
أورقت صديقتي البطلة.. رغم القاذورات التي تحيط بها.. وبعض أغلفة الأجولة
مازالت تعلق بغصونها.. إلا انها اورقت.. فتقافزت عيني على بقية الأشجار..
لألاحظ ظهور بعض الوريقات الجديدة على قممها واطراف غصونها..
أوراق يانعة غضة ذات لون أخضر زاهٍ..
تلك الأشجار أسعدتني.. تلك الأشجار قممها في السماء حقاً.. احتملت مقذوفات القمامة والإسمنت.. صمدت.. ثم أينعت..
رغم ما يحيط بها من قاذوراتنا.. إلا أنها لم تنسَ كونها أشجار.. ستورق وتخضر وتزهر.. وستظل أعلى من إنحطاط بعض عاداتنا وتصرفاتنا..
أشرقت الشمس ورحل الليل.. وبدأ ضوؤها يتكسر على على العمارات الشاهقة التي
استحدثت في شارعنا.. مكعبات الإسمنت التي بنوها لتغلق علينا منافذ
السماء..
ألقي نظرة سريعة على الشارع.. بدأ بعض المارة في الظهور.. وسكنت العصافير أخيراً..
وألقي نظرة أخيرة على شجرتي البطلة وأبتسم.. منحتني الأمل حقاً..
لأربطها بشيء من فلسفتي الخاصة..
قد تظلم الدنيا كثيرا.. وتمطرنا بوابل من الأحزان والآلام والفقد
والخسارة.. لكن سيأتي يوم نزهر فيه ونورق.. فقط علينا بأن نصمد.. أن
نحارب.. ونظل كما نحن ولا ننسى أبداً من نكون.. أو ماذا نريد أن نكون..
أغلقت الشيش.. فأشعة الشمس تعلن عن نفسها بقوة كلما مر الوقت.. أتأمل شيش
النافذة.. يكسر حدة وجرأة تلك الأشعة.. ليجعلها ضوءاً حيياً ينير غرفتي
بلطف ودون إزعاج..
الآن سأبحث عن النوم.. وأتساءل.. هل سأجد شيئاً
من رذاذه على وسادتي.. أم نسي الليل أن يمنحني ذالك الرذاذ السحري.. ونسي
أن يهمس لي بتهويدة لطيفة كي أغفو بسلام..
أم أتى كما وعد ولم يجدني؟.. وأنا التي أخلفت بالوعد.. وأخللت بالموازين..
أنا التي أصريت على مشاهدة لقاءه بالنهار.. أكان لقاء سرياً ولم يحق لي إستراق النظر.. أسيعاقبني على إثمي الصغير هذا..
أنا على فراشي الآن أنتظر رذاذ نومٍ سحري وتهويدة لطيفة تغرقني في عالم آخر..
فهل يطول إنتظاري؟!!..