الجمعة، 7 يناير 2011

نهاية شتاء، وبداية................

دخلت ذلك المقهى في سرعة هاربة من الأمطار المنهمرة.. أرخيت الوشاح الذي ألفه حول رقبتي وأنا أطلق تنهيدة حارة
يأبى الشتاء الرحيل.. رغم أن وقته قد شارف على الإنتهاء.. لكنه يعلن عن وجوده وبقوة حتى آخر أيامه

اتخذت طاولة أقصى المقهى.. زاوية هادئة بها نافذة تطل على الشارع المغرق بالمياه.. شردت ببصري لحظات وأنا أتأمل حبات المطر تنساب بنعومة على الزجاج.. فلم أشعر بالنادل حتى تنحنح بجانبي.. رفعت رأسي وأنا أبتسم في ارتباك.. وطلبت قدح من القهوة.. استدار وهو يدون ماطلبت ويطلق من فمه دندنة للحن قديم أحبه

عدت لشرودي.. كيف أضحت الأمور هكذا.. كيف أصبحت هنا.. منذ متى كانت الحيرة شعور دائما يملأ كياني
كل شيء بحياتي تشوبه الحيرة.. يشوبه القلق.. والخوف أيضا
أغمضت عيني في ألم.. كم أكره خوفي

..تفضلي..
فتحت عيني لأرى النادل يضع قدح القهوة وعلى وجهه نظرات الفضول.. ابتسمت شاكرة له.. أعلم أنه يعتقد كوني مجنونة.. لا ألومه حقا

أخذت أذوب قطع السكر في قدحي.. وعاد شرودي إللي من جديد.. ذلك البخار المتصاعد من القهوة.. يذكرني بحياتي.. تنساب حياتي من يدي بنعومة كهذا البخار.. بنعومة معها لا أشعر بمدى ماخسرت.. نعومة أسكرت تفكيري وأنستني أين كنت وأين أكون الآن

عدت إلى رشدي وقد عقدت حاجبي (كم قطعة سكر وضعت؟!!).. رفعت القدح ورشفت منه رشفة (يا إلهي.. كم هو حلو.. وحااار).. وضعت القدح متألمة من مذاقه وحرارته.. وأخذت محرمة أمسح بقايا القهوة عن شفتي هنا ضحكت في خفوت.. فقد طلت تلك الذكرى.. ليست أول مرة أحرق فيها فمي.. لطالما حذرتي صديقتي لكني لا أكف عن حماقاتي أبدا.. ظللت مبتسمة وأنا أبعد القدح عني بهدوء.. لقد أخذت كفايتي منه

رفعت عيني إلى النافذة.. توقفت الأمطار.. يبدو انه وقت مغادرة المقهى وإكمال طريقي

أشرت للنادل.. فاقترب وحمل الفنجان فسألته الحساب فقال وهو يضع ورقة مطوية أمامي (لا يوجد حساب لقد دفعه ذلك السيد وأرسل لك بهذه الورقة).. ثم أشار إلى رجل يرتدي معطف أسود يغادر المقهى.. لم أر وجهه.. تفاجأت.. لم أكن أدري هل أركض وراءه كالحمقاء كي أشكره.. أم أظل مكاني.. لكني تأخر كعادتي في التفكير.. فقد اختفى تماما ذلك المجهول
نظرت للنادل في حيرة وأنا أمسك بالورقة.. فنظر لي بفضول شديد.. قلت له (شكرا لك).. رد (نحن في الخدمة).. وظل واقفا، فرمقته بدهشة.. نظر لي بخيبة أمل ثم استدار ذاهبا.. ياله من فضولي

استكنت لحظات وأنا أتامل الورقة المطوية بعناية.. ثم فتحتها لأرى ما قد كتب بخط منسق

"منذ دخولك والحيرة تملأ عينيك.. حيرة يتستتر بها حزن يخاف اعلان وجوده.. وحيدة في ركن المقهى تناجين شيئا فقدته أو وددته.. بدوت ضعيفة إلى أن علت البسمة وجهك.. وكأن بداخلك شيء يضيء لك ظلام ليالي نفسك الحائرة.. بدوت كلوحة تستحق الوصف.. فاعذري وقاحتي.. لكني لم أكن لأمنع نفسي من تصرفي هذا"

انتهت السطور بدون توقيع.. رفعتي عيني ناحية باب المقهى حيث لمحت ذلك المجهور.. لن أسأل النادل عن أوصافة.. فلتبقى مجهولة يبدو أنه أراد ذلك

نهضت واتجهت نحو الباب.. وأعدت لف الوشاح بإحكام حول رقبتي.. توقفت الأمطار.. لكن لازال الطقس بارد
ابتسمت وأنا أضع الورقة بجيب معطفي.. لاتزال تحمل لي أيها الشتاء مفاجآت حتى وأنت تدير ظهرك للرحيل
وقد تكون هذه آخرها.. هذا ما أشعره
فتحت الباب وأخذت نفسا عميقا من الهواء النقي الذي ملأ الأجواء من بعد المطر.. أطلقت تنهيدة أخيرة واكملت طريقي من جديد


هناك تعليق واحد:

  1. من أجمل ما قرأت فعلاً :)
    zay ma bey2olo keda mayetzaha2sh menha :D

    ردحذف